الكاتب لص محترف ..

  سعيدة مليح

أن تمارس مهنة الكتابة يعني أن تعيش كل يوم في حياة تختلف عن تلك التي قبلها ,تختلط بداخلك رواسب الماضي مع اندفاق معالم الحاضر بشقيه ,تنغمس في الواقع بعين تٌرى ولا تُرى ,تجول في ميدان الرؤية لعلك تناظر حرفا تائها أو عبارة ملقية كالجثة الشبه هامدة على الطريق لترجع فيها نبض الاشتياق وربما نبع الحياة.
أن تمارس مهنة الكتابة يعني أنك تموت مع كل نص يولد ,تعانق الطين الأبيض ورائحة التوت البري ,تخالج الزمان وتعبث مع المفردات علنا في شرفة الأيام ,تصاحب تلك الورود السوداء التي قالت عنها أحلام في روايتها "الأسود يليق بك" ,وتعيش كفكرة في المكان أو ربما في "ماكوندو" تلك الحالة الفكرية لجابرييل جارسيا ماركيز في منفيته "مائة عام من العزلة".
الكاتب هو شخص مضطهد في خياله بمعالم الحرية ,حَكَم على أفكاره المتقاتلة في عمق رأسه ,لا هو قادر على الاجترار ولا على المضي وراءا ,إذ دائما هو في مرتبة الأعلى من الأمام ,كي تصير له رؤية فوقية ,لا يخال الحواجز الركيكة أبدا ,فتصوراته تتفوق على كل إنسان عادي ,وأفكاره في حالة نضج دائم.
هو الابن البار بالكتاب ,يعيش معه في جو مخملي مقدس مع انبعاث رائحة البخور وأنين معطر بالمسك من الروح ,كما لو أنه في مسجد الفاتح في اسطنبول أو في الحسن الثاني في الدار البيضاء وربما في مكان قدسي آخر لا يجيد إبراز محاسن تفاصيله سواه.
لو أنك يا عزيزي القارئ تسللت كمجهر مضيء إلى عوالم فكره ,فستجد مرآة كبيرة للضمير معلقة هناك ومئات الورق الأبيض المتناثر وأقلام ملونة ,وربما صورا من زمن الأبيض والأسود ,وشرائط قديمة وكتبا يهدها النسيان وأخرى لم تفتح بعد ,فالكاتب هو ذلك الأنيق في أسلوبه والمبعثر في خياله.
يمضي على صمم اللآمستحيل ,بخبرات الآخرين ينضب شلله العقيم ,سلاحه قلم في زمن الرصاص ,وشتائمه أسلوب من الحروف الممزوجة كخليط ماء مع كهرباء ,فهو المحامي والحكم والقاضي وأيضا المتصعلك في الطريق...
الكاتب هو ذلك العاقل أمام الناس والمجنون في حواراته مع ذاته ,رسام بارع وممثل يصقل أدواره بدم الوجدان ,لكنه أيضا لص محترف في الميدان ,فهو خبير التسلل إلى المشاعر وسرقة الأحاسيس كي يتقن دوره الملائكي أو الشيطاني ربما.

يقال أن الكتابة لم تخلق لفضتها بالمؤنث عبثا ,فهي مهنة للمرأة والرجل مجرد سارق محترف...

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات: