متعة السفر الفكري



من لا ذكريات له حتما لا حياة له، وأنا أنثى أحاول إفناء عمري وسط دائرة عميقة من الكتب، بها أرتوي من عطش يومي وبها أسد من رمق جوع المعرفة في معدتي، وعبرها أحاول التنقل من وجهة إلى أخرى دون تعب وبدون حاجة إلى قطع تذاكر سفر بمال منعدم الحصول في آنية اللحظة.
أدري أن علاقتي بالمدن فقيرة جداً، لكنني عبر ممارسة متعة القراءة سافرت كثيراً، ذهبت بعقلي عمق الأحداث والزمان والمكان، مارست الجنون الفكري كما لم أمارسه يوماً على أرض الواقع العقيم، تعلمت فن التجول في عقول الآخرين بجنون الهدوء وصخب الفضول للمعرفة الفكرية، وبعيداً عن ضوضاء الثرثرة الفارغة التي تكاد تملأ اليوم إلى درجة الإصابة بمرض الروتين الكئيب والمعدي في أحيان كثيرة، فآثرت وحدتي مع الكتب.
بالقراءة صادفت شخصيات تمنيت لو صادفتها حقيقة وبكيت بحرقة إثر وداعي الصعب لها في قلب السطر الأخير من الصفحة الأخيرة ما قبل الغلاف، وفي المقابل كرهت آخرين كما لم أكره أحداً في أيامي، ودعوت ربي بأن يقيني من مواعدتهم حقيقة.
مع كل كتاب أتجول فيه أخال نفسي سافرت جلياً، استأجرت صفحاته واستخرجت شهادة الإقامة وآنست الأنام عبره، تعلمت ممارسة الوحدة الممتعة بربط علاقة متينة مع الكتب.
عبر كتابتي لهذه الأسطر، أنا لا أجهر بأنني أعرف أكثر ولا أدعي أنني أقرأ أكثر، لكنني أدعو كل من يحس بالفراغ القاتل إلى ممارسة متعة القراءة الناضبة بالإفادة ومتعة المعرفة، اعتبرها جنوناً ومغامرة وخض غمارها مجازفاً بدون خوف، فقط أقفل الضوضاء العالقة بمحيطك وسافر كما لم تسافر قط.

لا تعطي بالاً لقيمة الطبعة، فهناك كتب غالية الطبع ضعيفة المحتوى، وكتب قديمة ومهترئة قد تكون كفيلة بتغيير حياتك للأفضل، لا تساوم في الكتب بل جرب قراءة كل ما تصادفه عيناك ولو ورقة لُفّـت بها عشبة من أجل الشاي، وثق بأن الكتب كالإنسان هناك من تستفيد منه ومن تخرج من خلال تجربتك معه بحكمة، وهناك من لا تحبه وتخرج منه بفن ممارسة النضج والنقد، فسافر بعيداً بعقلك بعيداً، وتجول في عقول الآخرين دون رهبة.

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات: